spot_img

عقلانية الثالوث

عندما كنت طالباً، وددت أن أكتب بحث التخرج في المجالات التربوية، في الآثار المترتبة على تحول الطالب الديني على أدائه الأكاديمي. وعلى الرغم من أنني كان لديّ بيانات قابلة للقياس، إلا أن المشرف على البحث رفض اقتراحي، لأن دراسة كهذه – في رأيه – «غير علمية». ثم كان أن بدأت أسأل نفسي: ما الذي يحدد «الطابع العلمي» للبحوث، بيد أن أثر الإيمان بالرَّبّ على تحفيز الإنسان للتعليم والنجاح هو أثر حقيقي، وقابل للقياس، كتأثير الأب والأم والبيئة بل والمعلم.
اتضح أن هناك مفهوم مضلل سائد بأن الأبحاث «العلمية» تعتمد بالأساس على افتراض عدم وجود الله. هذا هو الافتراض المنهجي للعلم والذي يسمى بالمنهجية الطَّبعانية: يجب علينا دراسة الظواهر كما لو كان سبب وجودها، المتمثل في شخص الله، غير موجود. هذا الافتراض المنهجيّ المسمى بالطَّبعانية، بطبيعته، غير علمي، لأنه يفترض ببداهة – أي بدون وجود أدلة أو خبرة سابقة لدعم التبرير والحجة – غياب العقل الكليّ، المصدر الوحيد للوجود. مثل هذا الرؤية ليس لها علاقة بالموضوعية، المعرفة العلمية للحقيقة، لكنها تمثل شكلا من أشكال الاعتقاد في عدم وجود الله.
منذ فترة ليست ببعيدة، قرأت على طفلي قصة، تحكي عن الفيل الصغير الذي تجاهل تحذيرات أمه، وذهب إلى النهر، إلا أنه واجه هناك المشاكل: فالتمساح الذي كان يسبح في النهر أطبق على أنف الفيل الصغير. وبدأوا في الشد والجذب حتى طال أنف الفيل الصغير وصار خرطوماً. وهكذا نشأت فصيلة الفيلة ذات الخرطوم الحالية.
من الممكن ملاحظة التشابه الواضح بين هذه القصة وكتب علم الأحياء، التي تروي قصة أصل الأنواع. ويحكي لنا أناس بألقاب علمية أن الزرافة، لملايين السنين، رفعت رقبتها للحصول على الغذاء من الأشجار العالية، فتمددت رقبتها واستطالت؛ وأن الزواحف خفقت بكفوفها عبر ملايين السنين، وفي نهاية المطاف تطورت إلى أجنحة، وتحولت الزواحف إلى طيور؛ وأن الأسماك قد دفعها الجوع للخروج على اليابسة فحصلت على رئتين وباتت قادرة على تنفس الهواء. ما هي الاختلافات بين هذه القصص وقصة التمساح والفيل الصغير؟ الفرق الوحيد هو أن التمساح جذب أنف الفيل فصارت خرطوماً في بضع دقائق، في حين أن في عملية النشوء والارتقاء تم إنجاز كل هذا على مدى عدة ملايين السنين. إذا الفرق يكمن في الوقت، الذي يحدد «الطابع العلمي» للقصة.
الرسوم التوضيحية في الكتاب المدرسية جعلت المسألة تبدو واضحة وبسيطة، أيضاً، تعودنا أن نسمع عن «حقيقة التطور» حتى توقفنا عن طرح هذا السؤال: «كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنا؟». بيد أن عملية نمو رقبة الحيوان بطول عشرة سنتيمترات ليست فقط مسألة نمو الفقرات بطريقة غير طبيعية. لكن الحيوان في حاجة إلى تغيير في مساحة الجلد وطول الأوعية الدموية وضغط الدم وقدرات القلب والأجهزة العضلية والتنفسية والهضمية، وأشياء أخرى كثيرة إلى جانب هذا. لا يمكن اختزال هذه التغيرات المعقدة التي حدثت في الكائن الحي بأكمله، والتي من شأنها أن تمكن مخلوق طويل العنق من الحياة، إلى طفرة أو تحول عشوائي في الجينات (المورثات). كان يجب أن تحدث سلسلة كاملة ومتطابقة من الطفرات ذات النوعيات والكميات والاتجاهات المحددة تحديداً دقيقاً.
على سبيل المثال البسيط: لدينا مبنى مأهول، مكون من عشرة طوابق. فجأة، قرر مالكه إضافة طابق آخر للمبنى، ليس أعلى المبنى، لكن، لنقل مثلاً، بين الطابقين الخامس والسادس. هل يستطيع أي مقاول أن يقوم بمثل هذا العمل؟ أشك في ذلك، خاصة أن المالك يريد أن يُبقى المبنى قيد الاستخدام وقت التشييد. وهذا يعني أن الناس لن يتركوا المبنى، بل أن أولئك الذين يعيشون فوق الطابق الخامس سيتلقى جميع الخدمات العامة الاعتيادية والتي تضمن لهم إمدادات المياه والكهرباء والغاز والتدفئة والصرف الصحي، وتأمين أثاثهم حتى لا يضر أثناء بناء الطابق الجديد.
على الرغم من أن الحس السليم يحجم عن فهم هذا التغيير الهيكلي التدريجي، فإن التطور البيولوجي وهو فرع من فروع العلوم الجادة، يقص علينا قصص الفيلة التي مشيت على مدى ملايين من السنين على شاطئ النهر فجذبت التماسيح أنوفها بانتظام لملايين السنين، مما أدى إلى ظهور الخرطوم للفيل. لماذا يسمى هذا علم؟ ذلك، لأن مثل هذه القصة لا تتطلب وجوداً للإله الخالق، بمعنى أن مثل هذه النظرية فقط يمكن اعتبارها علمية حسب المفاهيم التي يفرضها العلم الحديث على نفسه.
في الوقت ذاته، تتطلب حقيقة عقلانية الكون وقوانين الطبيعة وجميع الكائنات الحية تفسيرات خارقة للطبيعة. من منطلق التفكير المنطقي لدينا أسباب معقولة للمضي قدما في فرضية وجود سبب جذري أدى إلى جلب الكون العقلاني إلى حيز الوجود، وأن هناك الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ (Omniscience)، الذي يمتلك المعرفة الكاملة إلى ما لا نهاية، يوضح كل شيء، ولا يتطلب تفسيرا. وإذا وضعنا جانباً، للحظة فقط، الافتراضية «العلمية» بأن الله غير موجود، لأن الله لا يمكن أن يكون موجوداً، فسيتضح لنا فوراً، وبطريقة منطقية متسقة أن الحاجة لوجود الله ترجع في الواقع لوجود هذا الكون من حولنا.
بمعنى أن الكون كله تم بناءه بمثل هذه الطريقة حتى يتيح لنا وجودنا. وإذا ما غيرنا شيئا في التفاصيل الصغيرة في
القوانين الطبيعة، سيكون الوجود البشري مستحيلا. فالكون، هنا والآن، يناسبنا كما لو كان قد فُصِّل على مقاسنا خصيصا، بل يمكن القول أنه خلق لأجلنا.
ومن هذا يمكن استنتاج، أن وجود الكون، ووجودنا أنت وأنا في هذا الكون، ليس من قبيل الصدفة. نحن لم نأت إلى حيز الوجود نتيجة لظروف عشوائية في كون فوضويّ. لكن، تم وضعنا في بناء منظم معقول حيث تتناسب فيه كل الأشياء معا في وئام، حيث لكل شيء غرضه ومعناه. ولا يمكن إلا أن نطرح هذا السؤال: لماذا؟ وخلافاً للظاهر، يبقى مثل هذا السؤال قطعيا سؤالاً منطقياً، لأن التنظيم، دائما ما يكون له معنى وغاية. والسعي إلى الإجابة على السؤال عن معنى وغاية وجودنا يؤدي لا محالة إلى فرضية علمية لوجود الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ، الذي يمتلك المعرفة الكاملة إلى ما لا نهاية.
يهمني لفت النظر إلى أني لا أريد الهروب إلى التفسيرات الدينية في حالة غياب إجابات علمية. ما أودّ قوله الآن، أن مجرد وجود الكون وعقلانيته وإمكانية إدراكه ينبع من ذات مصدر وجود الإنسان في هذا الكون. فالعقول الرشيدة يمكنها إنشاء العلم والثقافة والحضارة في الكون العقلاني فقط. لم يكن وجود العلم ممكناً إن لم يكن الكون عقلانياً ومن الممكن إدراكه. إذاً لقد حان الوقت للاعتراف بأن العلم لن يكون قادرا على أداء مهامه بشكل صحيح، مفترضاً أن الله ليس هو علة الوجود. قد يكون من المفيد هنا الاستشهاد بقول الكتاب المقدّس: «مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ» (أم 1: 7).
لسنا هنا في حاجة إلى تقديم الحجة المنطقية الكاملة المقترحة من قبل البروفيسور زبيغنيف ياتسينا أونيشكيفيتش، الذي، من خلال دراسته العلمية والبحثية، خرج بمثل هذا الاستنتاج بالضبط. وقد ذكر هذه الحجة بالتفصيل في كتاب «الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ» (Omniscience) و كتاب «سر الله الثالوث الأحد» (The Unitrinitarian Mystery of God)، وهي كتب متاحة باللغتين البولندية والإنجليزية. ولولا ضيق مساحة هذه المقالة لنقلت بعض الاقتباسات من هذه الكتب. لكني سوف أتطرق هنا إلى نقطة واحدة فقط، وهي حقيقة أن الله الرشيد، الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ، يجب بالضرورة أن يكون واحد ثلاثي الأقانيم.
من المثير للدهشة أن الفلاسفة، وعلماء العلوم الطبيعية على وجه الخصوص، على مدى عشرين قرناً شككوا في عقيدة الثالوث، لأنها لا تتفق مع خبراتنا اليومية والمنطق العادي. فكل طفل يعرف أن 1 + 1 + 1 يساوي 3 وليس 1. فلماذا، إذن، تعاند الكنيسة وتحتفظ بفكرة «غير عقلانية» تدفع الكثير من الناس أصحاب التفكير العقلاني إلى النفور منها؟ اليوم، يتيح لنا العلم الحديث أن نفهم أنه، قبل ألفي سنة مضت، كُشِف النقاب عن سر الثالوث، بقدر يتجاوز القدرات المعرفة لأولئك الذين عاشوا في ذلك الوقت. الآن يمكننا أن نقتنع ونؤمن بالثالوث، ليس فقط لأن «هكذا يقول الكاهن»، ولكن لأن هذا هو ما يفرضه علينا الفهم العقلاني للكون المحيط بنا.
إن مفهومنا لحدود المعرفة يضطرنا لقبول فرضية وجود الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ، الذي يعلم كل شيءٍ. ومن مستلزمات التفكير المنطقي أن يكون الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ ذو كيان شخصي، مع استحالة أن يكون فرداً واحداً هو الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ. لأن هذا «الفرد الواحد» لا يمكن أن يكون على معرفة بالعلاقات الشخصية المتبادلة، أي أنه لا يشمل كل شيء ممكن معرفته وإدراكه. فالْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ يجب أن يشمل الكائن الثاني والكائن الثالث، الذين يشملون في علاقاتهم المتبادلة كل المعرفة الممكنة والمستحيلة. يقدم البروفيسور ياتسينا أونيشكيفيتش نموذجا بسيطا، يظهر أن عدد الأشخاص الذين يشكلون المعرفة يجب أن يكونوا ثلاثة، لأن هذا الشرط يسمح بنفس العدد من العلاقات الشخصية المتبادلة المستقلة، وهي على وجه التحديد ثلاثة.
وأيضا من المثير للاهتمام، الاستنتاجات المختصة بطبيعة هذه العلاقات. والتي يتضح منها أن هذه العلاقة، بالضرورة، تتكون في المحبة المتبادلة بين شخص واحد، وهذه المحبة لا تنبع من أي شخص آخر ولا تتطلب أي تفسير، والشخص الثاني، الذي تنبع محبته من محبة الأول. هذا الحب يجد تعبيرا عنه في الشخص الثالث، وبهذه الصورة فإن محبته تكون قائمة على محبة الشخصين الأولين. بالطبع، كل الأشخاص الثلاثة يحبوا بعضهم البعض بالتبادل: فعلاقة المحبة المتبادَلة بين الشخص الأول والثالث، تظهر في الشخص الثاني، وعلاقة المحبة المتبادَلة بين الشخص الثاني والثالث، تظهر في الشخص الأول. كل واحد من الأشخاص الثلاثة يشكل القابلية لمعرفة كل شيء إلى ما لا نهاية والقدرة على المحبة اللامحدودة. ببساطة، لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، لأن ثالوث الله يشمل العلم المطلق وكافة أنواع العلاقات. ببساطة أكثر، لا يمكن لإله منفرد أن يكون عَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ، لأنه لا يعرف ما هي المحبة.
والحقيقة التي تستحق الملاحظة هي مدى أهمية ثالوث الله للوجود البشري. عندما نقرأ أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله (تك 1: 27-28)، في كثير من الأحيان لا ندرك أن هذا الفعل هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الثالوث الإلهية. فقد خلق الله الإنسان، ومنه انبثقت المرأة، ومن الاثنين ينبثق الطفل. وهكذا يقدم لنا الرَّبّ، في الأسرة، صورة لكل علاقات المحبة الممكنة في الكيان الإلهيّ.
وهكذا فإن فرضية وجود المعرفة اللامحدودة، والتي لا توجد معرفة أعظم منها، يقودنا إلى استنتاجات لا مفر منها حول معنى وجود كون عقلاني ومكاننا داخله نحن كبشر. بكل بساطة، هذه المعرفة اللامحدودة، التي يجب أن تكون ثالوثية، بمعنى الأشخاص السعداء في علاقات المحبة لدرجة الرغبة في تبادل هذه المحبة مع الآخرين. بهذا السبب خُلقنا، ولهذا السبب أيضا خُلقنا في مثل هذا الكون، الذي نحاول فيه اكتشاف الأساليب العلمية التي من خلالها نستبعد فكرة الله. من السهل ملاحظة أنه لو استمررنا بعناد في البحث العلمي على أسس المنهجية الطَّبعانية، سوف نبقى دائما محدودين وفقراء في المعرفة الملموسة والواضحة والقابلة للقياس لعلاقات المحبة القائمة بين الإنسان والثالوث الْعَلِيم بِكُلِّ شَيْءٍ، الذي يمتلك المعرفة الكاملة إلى ما لا نهاية، الذي خلقنا بمحبته والذي ينتظرنا أن نبادله هذه المحبة بوعي وعن طيب خاطر.
ميروسواف روتسكي

Wybrane dla Ciebie

spot_img

Święty ojciec Szarbel Machluf został patronem fundacji na mocy dekretu opata zakonu oraz przeora Sanktuarium św. Szarbela (klasztor św. Marona w Annai) z dnia 28 maja 2019 r.

spot_img
- Komunikaty -spot_img
- Zamów online przez nasz formularz - spot_img
- Modlimy się za Ciebie! -spot_img
- Wesprzyj nas -spot_img

Wiadomości