لانشيانو، مدينة مثل أغلب المدن الإيطالية، تتحدث آثارها وصروحها المعمارية عن التاريخ والحضارة الغابرة. أحجار البناء الرومانية والقوطية وبقايا أسوار المدينة والجسر تكتنز من أسرار تحكي عن حقبة من الزمن الروماني. تكشف هذه المعالم عن القرون المتعاقبة في تاريخ هذه المدينة، تاركة إياها قوية، وعليها علامات صمودها الشامخ.
على هذه الخلفية، فإن أعظم كنز في لانشيانو يبدو رقيقًا: وعاء القربان المقدس والكأس التي تحتوي على ذخيرة مقدّسة، لا يتجاوز وزنها بضع غرامات، عقب المعجزة الإفخارستيّة التي حدثت منذ 12 قرنًا مضت.
في عام 1636 كتب أحد المؤرخين المجهولين التالي: «في حوالي عام 750 ميلادية، في دير القدّيس باسيليوس عاش راهب عالم، كان يعرف تعاليم العالم لكنه كان يجهل أمور الله، لذلك لم يكن إيمانه قويًا. ساوره الشك فيما إذا كان السيّد المسيح حاضرًا حقًا في خبز الذبيحة المكرّس، وفيما إذا كان الخمر هو بالحقيقة دمه. ومع ذلك، واظب على الصلاة حتى يزيل الرَّب الغشاوة التي على قلبه. النِّعمة لم تذهب عنه، لأن الله الآب الرَّحيم المواسي أحب أن يقيمه من الظلام الدامس ويعطيه نفس النِّعمة التي سبق وأعطاها للرسول توما المتشكك. في صباح أحد الأيام، وأثناء القدّاس الإلهي، بعد أن نطق كلمات صلاة التكريس، زاد شكه وزادت أخطاءه أكثر من أي وقت مضى. وبنعمة عجيبة للغاية رأى الخبز يتحول إلى جسد والخمر يتحول إلى دم. ارتبك الراهب واستبد به الخوف مما حدث، وبات كأنه انخطف لفترة من الوقت، ولكن في النهاية زالت عنه الرهبة وتبدلت بسعادة روحية ملأت كل نفسه. والتفت إلى الشعب والدموع تغطي وجهه وهتف فيهم قائلاً: «أيها الأحباء السعداء، الذين ظهر لهم إلهنا المبارك في سرّ القربان المقدَّس، من أجل أن يكشف عن نفسه أمامهم وأمام عدم إيماني. تعالوا، أيها الإخوة، وانظروا إلى إلهنا الذي جاء لنا. هذا هو جسد حبيبنا المسيح ودمه». بعض تفاصيل هذه القصة منقوشة على لوح من الرخام في الكنيسة، ومنها يتضح أن الجسد والدم المتخثر ما زالا محفوظين ومن الممكن عرضهما أمام المؤمنين. تم التصديق على المعجزة في 17 شباط/فبراير 1574 من قبل الأسقف لانشيانو رودريجيز جاسبار، ثم أكدها من تبعه من الأساقفة.
دون المؤرخون أيضًا فترة مثيرة للاهتمام وترتبط مع عبادة الذخائر المقدسة. في عام 1565 هاجم الأتراك ساحل البحر الأدرياتيكي، فأخفى الأب أنطونيو دا ماسترو رينزو الذخائر المقدَّسة في مكان آمن خشية سرقتها وتدنيسها. وفي الأول من آب/أغسطس فر مع الشباب بالكنز الثمين. بعد أربع وعشرين ساعة من السفر وجد نفسه عند نفس البوابة التي كان عندها في الليلة السابقة. فقال لأصحابه وهو في حيرة ودهشة من الأمر: «رفاقي الأعزاء، لا تفتشوا في هذه الحالة عن سوء الحظ، ولكن اتكلوا على مشيئة الرَّب، لأن أسراره غير معروفة ولا يسبر غورها. لذا، علينا أن نبقى هنا، وإذا لزم الأمر، علينا أن نكون على استعداد لسفك دمائنا والتضحية بحياتنا كما يليق بجنود المسيح الحقيقيين».
مرت عصور كثيرة على هذا الحدث المعجز، قوضت العديد من المباني وصارت أطلالاً، وأصبحت الكنيسة تابعة للفرنسيسكان بعدما كانت تابعة للباسيليين، لكن لا يزال وعاء القربان المقدس مع الذخائر المقدَّسة قائمان يعلنان في صمت عن أسرار تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه.
وصف الذخيرة المقدَّسة
الذخيرة المقدَّسة في كنيسة القدّيس فرنسيس في لانشيانو محفوظة في خزانة مزودة بلوحين من الزجاج، في داخلها نرى قطعة من جسم بشري على شكل دائرة غير منتظمة يبلغ قطرها 55 مم محاطة بمساحة فارغة كان يملأها القربان المكرّس الذي تكسر مع مرور الزمن. حافة المقطع البشري سميكة وفي الداخل رقيقة، تحنطت بمرور الزمن وأصبح لونها أصفر داكناً، ذات قوام صلب جدًا، وهذا ما أكدته الاختبارات المعملية لعينات ميكروسكوبية.
في الكأس الزجاجي، الموجود أسفل وعاء القربان المقدَّس، يوجد 5 جلطات الدم ذات أشكال غير متساوية، وأيضا ذات قوام صلب جدًا، ويبلغ مجموع وزنها 15,85 غرامًا.
في عام 1970 اقترح رئيس أساقفة لانشيانو باسيفيكو بيرانتوني، على الآباء الفرنسيسكان رعاة الدير الإفخارستي ومقاطعة برونو لوتشياني، أن تخضع الذخيرة المقدَّسة للبحث العلمي. وتولى هذه المهمة الصعبة البروفيسور أودواردو لينولي، وهو أخصائي في علم التشريح والهيستوباثولوجيا والكيمياء والفحص المجهري السريري، بمعاونة بروفيسور التشريح روجّيرو برتيلّي. استمرت الاختبارات والأبحاث من تشرين الثاني/نوفمبر 1970 حتى آذار/مارس 1971، ثم استأنفت في عام 1981. وقد أسفرت هذه الفحوص عن النتائج التالية: تبين أن الجسم هو لعضلة قلب إنسان محنطة ولم يطرأ عليه التغيير منذ 1200 سنة على الرغم من عدم وجود أي أثر لمواد محنطة. كتب البروفيسور أودواردو لينولي في تقريره يقول: «المقطع من الجسم هو جزء من القلب ومن الواضح تمامًا أننا نتعامل مع مقطع من البطين الأيمن والأيسر».
أيضًا، أثبتت الأبحاث أن جلطات الدم هي لدم بشري في تكوينه الكيميائي العادي، من فصيلة AB، وهي فصيلة نادرة في أوروبا، وأكثر شيوعًا في فلسطين وإسرائيل. يقول البروفيسور أودواردو لينولي في تقريره: «أنها هي نفس فصيلة دم رجل كفن تورينو المقدَّس، وهذا تحديدًا لأنها الفصيلة المميزة لمن ولدوا وعاشوا في الشرق الأوسط». لم يطعن أحد على نتائج هذه الدراسات، بل على العكس، فإنه في كثير من الأحيان يستشهد بمعجزة لانشيانو كحقيقة علمية في المؤتمرات والندوات المتخصصة، لكن كيفية حدوثها تبقى لغرًا محيرًا لا يعرف العلم له تفسيرًا.
أَعِنْ عدم إيماني…
منذ أكثر من ألف عام، شك راهب باسيليوسي مجهول الاسم، لكنه معروف بكفاءته العلمية، في وجود حقيقي ليسوع المسيح في القربان المقدَّس. ولكن – كما سجل التاريخ سيرته – أرقه هذا الموقف فبات يصلى «أن يزيل الرَّب عور الشك من قلبه». وأعطى مثالاً على كيفية التعامل مع الشكوك والصعوبات في الإيمان. لاقت صلاته التي طلب فيها العون من الله استجابة كبيرة. فكانت معجزة ليست فقط من أجل راهب متشكك في القرن الثامن، لكن لكل من يرغب في تعزيز ثقته في وجود حقيقي لربّنا ومخلصنا في الخبز والخمر.
«السرّ العظيم الذي للخلاص» لا يمكن أن يمتد إلى العقل البشري، طالما يعيش الإنسان في هذا العالم. ينبغي الدخول في ظلمة الإيمان، وطلب العون من الله، للخروج من هذه الظلمة معززين. معجزة لانشيانو الإفخارستيّة هي جواب صريح من الله لصرخة رجل يريد إيمانًا أعمق. ذلك لأن الإيمان نعمة تنمو حسب حاجة قلب الإنسان. في لانشيانو استجاب يسوع المسيح لهذه الحاجة بأن أحاط القربان المقدَّس على المذبح بقطعة من قلبه والخمر حوله إلى دمه البشري. كريم هو الرَّب في إِحساناتِه.
في عصرنا هذا، يكشف الرَّب عن كرمه بطريقة أخرى. في خلقه للإنسان كائن عقلاني، أتاح له الفرص الرائعة لتطوير العلم والبحث العلمي والاختراعات. وكم من الظواهر غير القابلة للتفسير تناولها العلم الحديث بالدراسة! ففسر البعض أن أسبابها هي قوى الطبيعة، والبعض الآخر، بعد الفحص الدقيق بواسطة جميع الطرق المتاحة، اعترفوا أنها تفوق قدرتهم على التفسير. يتوقف العلم عند عتبة معينة، وما بعدها يكون سرًا، لا يمكن الوصول إليه إلا بالإيمان وحده.
تريزا تشكيفيتش