الله أب رحيم. هذه الحقيقة قررتها الكنيسة منذ البداية، وذكرنا بها السيد المسيح بطريقة مميزة في ظهوراته للقدّيسة فوستينا كُوفالسكا. وفي ذلك الحين، كانت واحدة من رغباته المتكررة هو أن يقام عيداً للرحمة الإلهية:
«في المساء، كنت في صومعتي، رأيت الرَّبّ يسوع مرتدياً ثوباً أبيض. وإحدى يديه مرفوعة ليبارك، والأخرى تلمس الرداء
جهة الصدر، وكان ينبعث من ردائه المفتوح قليلاً على الصدر شعاعان عظيمان الأول أحمر اللون والآخر باهت. كنت أتأمل الرَّبّ في صمت، وامتلأت نفسي بالخوف وبالفرح العظيم. بعدها بلحظة قال لي يسوع: “ارسمي صورة وفقا لما تشاهدين، واكتبي عليها يا يسوع، إنّي أثقُ بكَ. أتمنى أن تكرس هذه الصورة أولاً في كنيستكن، ومن ثم في العالم أجمع. أعد إلا تهلك كل نفس تقدس هذه الصورة. أعدها أيضاً، هنا على الأرض بالانتصار على أعدائها، وخاصة في ساعة موتها. سأدافع عنها بنفسي كما أدافع عن مجدي”.
عندما أغبرت الأب المُعرّف، كان الجواب أنه أمر يتعلق بنفسك أنتِ. وقال لي: “ارسمي صورة الرَّبّ في قلبك”. عندما تركت كرسي الاعتراف – سمعت مرة أخرى هذه الكلمات: “صورتي بالفعل موجودة في قلبك. أريد أن يكون هناك عيداً للرحمة. أريد أن تكرس الصورة، التي سترسمينها بفرشاة، في احتفالية في أول يوم أحد بعد عيد الفصح، ويكون يوم الأحد هذا عيداً للرحمة.
أريد أن يعلن الكهنة رحمتي العظيمة لنفوس الخطاة. فليقترب مني الخاطئ بلا خوف. فإن لهيب الرحمة يحرقني وأريد أن أسكبها على النفوس البشرية”.
وقال لي يسوع هذه الكلمات متألماً: “عدم ثقة النفوس تمزق قلبي. وما يؤلمني أكثر هو عدم ثقة النفوس المختارة. رغم محبتي التي لا تنضب، لا يثقون بيّ، حتى موتي لا يكفيهم. ويل للنفوس المستهينة بها”» (يوميّات القدّيسة فوستينا 47-50).
«لن تتَبَرَّر أي نفس، ما لم ترجع إلى رحمتي بثقة، ولذلك يجب أن يكون الأحد الذي يلي عيد الفصح عيداً للرحمة، وفيه يُحَدِّثُ الكنهة النفوس بمحبتي العظيمة واللامحدودة» (يوميّات القدّيسة فوستينا 570).
«ابنتي، انظري إلى هاوية رحمتي وأعطي هذه الرحمة الكرامة والمجد، وافعلي ذلك هكذا: اجمعي كل خطاة العالم، وزجي بهم في هاوية رحمتي. أود أن تتقدم إليّ النفوس، أريد النفوس يا ابنتي. في يوم عيدي، عيد الرحمة الإلهية، ستجولين العالم كله وتجلبين النفوس الفاترة إلى ينبوع رحمتي، وسأشفيها وأقويها» (يوميّات القدّيسة فوستينا 206).
«أريدُ أن يكون عيد الرحمة ملاذاً للخطاة المساكين. في ذلك اليوم ستتفتح أعماق رحمتي، وأسكب محيط من المراحم على تلك النفوس التي تقترب من ينبوع رحمتي، النفس التي ستعترف وستتناول القربان المقدس ستنال مغفرة للخطايا وللعقاب. في هذا اليوم ستفتح كل الأبواب الإلهية على مصارعيها لتتدفق من خلالها كل النعم، لا ينبغي أن تخاف النفس من الاقتراب مني حتى لو كانت خطاياهم كلطخات قِرْمِزِيَّة (…). إن عيد الرحمة فاض من أعماقي، وأود أن يُقام احتفال كبير في الأحد التالي لعيد الفصح. فلن يكون للبشرية سلام إِلاَّ حين ترجع إلى ينبوع رحمتي» (يوميّات القدّيسة فوستينا 699).
“ابنتي، إذا كنت بواسطتكِ أطالب الناس أن يتعبدوا لرحمتي، فيجب أن تكون أنتِ أول من يتميز بالثقة في رحمتي. أطلب منكِ أعمال الرحمة التي تنشأ من محبتك ليّ. عليكِ أن تظهري الرحمة للآخرين في كل وقت وفي كل مكان، لا يمكنك التبرير أو التخاذل عن ذلك. سأعطيك ثلاث طرق لممارسة الرحمة نحو الغير: الأولى بالأعمال، والثانية بالكلام، والثالثة بالصلاة، في هذه الدرجات الثلاث ملء رحمتي وهي دليل لا شك فيه على محبتكِ لي. وبهذه الطريقة، تحمد وتمجد النفس رحمتي. نعم إن عيد الرحمة هو الأحد التالي لعيد الفصح، ولكن يجب أن يكون هناك أعمالاً، وأني أطلب عبادة رحمتي من خلال الاحتفال بالعيد وتبجيل هذه الصورة التي رُسمت. سأمنح بواسطة هذه الصورة العديد من المَراحِمِ إلى النفوس، هي للتذكير بطلب رحمتي، لأن حتى أقوى الإيمان من غير أعمال هو بلا قيمة» (يوميّات القدّيسة فوستينا 742).
«تهلك النفوس على الرغم من آلامي المريرة. أعطيها الملاذ الأخير في عيد رحمتي. فإذا لم تتعبد لرحمتي، فستهلك إلى الأبد. اكتبي يا أمينة سر رحمتي، وخبري النفوس عن رحمتي العظيمة، لأنه قريب هو اليوم الرهيب، يوم عدالتي» (يوميّات القدّيسة فوستينا 965).
يسوع يطلب منا أيضاً أن نستعد روحيّاً لعيد الرحمة الإلهية بصلوات التساعيّة، التي من المقرر أن تبدأ يوم الجمعة العظيمة، وتستمر لمدة تسعة أيام. كتب القدّيسة فوستينا تقول: «قال الرَّبّ ليّ أن أتلو هذا الإكليل لمدة تسعة أيام قبل عيد الرحمة (…). “في هذه التساعيّة سأمنح النفوس كل المراحم”» (يوميّات القدّيسة فوستينا 796).
رغبة السيد المسيح بإقامة عيداً للرحمة الإلهية تحقق على يد البابا يوحنا بولس الثاني، ففي عام 2000، أثناء إعلان تقديس
الأخت فوستينا، خصص الأحد التالي لعيد الفصح عيداً رسمياً للرحمة الإلهية في الكنيسة. عاش البابا منذ حداثته رسالة الرحمة الإلهية. كان مصدر أمل للكثير من الناس، في السنوات المأساوية إبان الحرب العالمية الثانية، وفترة الاحتلال الألماني لبولندا ومن بعدها الاستعباد الشيوعي. قال البابا يوحنا بولس الثاني: «لقد كانت هذه هي تجربتي الشخصية التي أخذتها معي إلى السدّة البطرسية، والتي تشكل صورة هذه الحبرية» (7/6/1997).
بعد اعتلاءه السدّة البطرسية، بدأ يوحنا بولس الثاني في نشر عبادة الرحمة الإلهية بجميع أرجاء العالم. في عام 1980 كتب البابا الرسالة العامة حول الرحمة الإلهية في الله الغنيّ بالمراحم (Dives in misericordia). شرح فيها البابا حقيقة «الله الغنيّ بالمراحم»، والذي صار إنساناً حقيقياً في سر آلامه وموته وقيامته، وبمحبته الرحيمة وصل أينما وصلت قوة الشر المدمرة، لتتغلب على الخطيئة والموت وقوة الشيطان. يسوع المسيح يدعو الجميع للمشاركة في هذه الانتصارات، ويريد أن يحتوي الجميع برحمته الفائقة لمغفرة كل الخطايا واستعادة الحرية والفرح لأبناء الله. المسيح يعلم مدى ضعفنا وكيف أننا في كثير من الأحيان نستسلم للإغراءات، لذلك فبعد قيامته أقام سر التوبة، وقال لرسله: «اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو 20: 22-23). وهكذا يعطينا الرب يسوع الفرصة أن نقوم من كل خطيئة.
قال يسوع للقدّيسة فوستينا: «اعلمي أنه عندما تتقدمين للاعتراف فأنا هو من ينتظرك، أكون مستتراً بالكاهن، وأنا فقط الذي أَعملُ في نفسك. هنا على كرسي الاعتراف تلتقي النفس الخاطئة بإله الرحمة. خبري النفوس أنها تنهل من نبع رحمتي في إناء واحد هو الثّقة. إذا كانت ثقتهم كبيرة، فكرمي لا حدود له. شلالات نعمي تغمر النفوس المتواضعة، أما المتكبرون فيبقون دائماً في حالة من الفقر والبؤس، لأن نعمتي تحيد عنهم لتنسكب على المتواضعين» (يوميّات القدّيسة فوستينا 1602).
فلتكن مناسبة الإعلان عن تقديس البابا يوحنا بولس الثاني في أحد الرحمة الإلهي عام 2014 تجعلنا ندرك من جديد، أن أملنا الوحيد ومسرتنا وكنزنا الأعظم هو رحمة الله اللانهائية. هذه الرحمة التي نختبرها في محكمة الرحمة الإلهية، التي تتجلى في سر التوبة. يقول يوحنا بولس الثاني «إذا كنتم تريدون أن تعرفوا ما هو التحرر الداخلي والفرح الحقيقي، لا تنسوا سر المصالحة. ففيه سر استمرار الشباب الروحيّ» (كاوناس، 9/6/1993).
«ينادي الرَّبّ يسوع: أخبري النفوس أين عليها أن تبحث عن التعزية، أنها في محكمة الرحمة الإلهية، فهناك أعظم المعجزات التي تتكرر دون انقطاع. ليست هناك حاجة للحج إلى الأماكن المقدّسة البعيدة أو إقامة مظاهر دينية لنيل هذه المعجزات، يكفي أن تأتي إلى أقدام نوابي بإيمان كاشفة عن مذلتها فتظهر معجزات الرحمة الإلهية في كمالها. حتى لو كانت النفس مثل الجثة المتحللة أو من وجهة نظر البشر لا أمل لإعادتها إلى الحياة، وضاع كل شيء، فالأمر يختلف عند الله، لأنّ معجزة الرحمة الإلهية تعيد للنفس مِلْء الحياة. أيها التعساء، الذين لا تستغلون معجزة الرحمة الإلهية، سيكون صراخكم بغير فائدة بعد فوات الأوان» (يوميّات القدّيسة فوستينا 1448).
ناشدنا يوحنا بولس الثاني: «لا تخف! آمن بالرَّبّ الغني بالرحمة. لأَنَّ المسيح، الرجاء الحقيقي حَاضِرٌ معك». وطلب منا: «لكي لا تزدروا هذه المحبة، التي هي “أعظم” ما يعبر عنه الصليب، والتي بدونها تصبح حياة الإنسان بدون جذور، ولا معنى (…). أفتحوا قلوبكم لأعظم هدية من الله، لمحبته، التي ظهرت للعالم بصليب المسيح كمحبة رحيمة. اليوم، في عصر مختلف، في فجر قرن جديد وألفية جديدة، فكونوا “مستعدين أن تشهدوا المسألة الإنسانية”. اليوم، أطلب وبإلحاح من أبناء وبنات الكنيسة وكل إنسان ذي إرادة صالحة أَلاَّ تكون “المسألة الإنسانية” منفصلة أبداً عن محبة الله. ساعدوا الإنسان العصري أن يختبر محبة الله الرحيمة! لتنقذ إنسانيته بضيائها ودفئها!» (17/8/2002).
المحرر