حدثت محاولة اغتيال القدّيس يوحنَّا بولس الثَّاني يوم 13 أيار/مايو عام 1981، في الذكرى 64 للظهور الأول للسيّدة العذراء في فاتيما. وقد أجمع المؤرخون وخبراء ظهورات السيّدة العذراء في فاتيما أن الاعتداء قد تم في نفس الساعة والدقيقة. في أثناء تطويب البابا يوحنَّا بولس الثَّاني لجاسينتا وفرانسيسكو في 13 أيار/مايو عام 2000 تم الكشف عن المحتوى الرئيسي من القسم الثالث من «سرّ فاتيما».
أوضح الكاردينال سودانو أنه: «وفقا لتفسير الرعاة، وحسبما أكدته مؤخرًا الأخت لوسيَّا، فإن الأسقف اللابس ثوبًا أبيض ويصلي من أجل جميع المؤمنين هو الأب الأقدس. وقد بذل كل الجهد في السير قُدمًا وسط الآلام، على الدرب الذي يقود إلى الصليب بين جثث الشهداء الموتى (الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات وكثير من العلمانيين)، ويسقط أيضًا الأب الأقدس كميت على درب الشهداء بطلقات من سلاح ناريّ».
طلب القدّيس يوحنَّا بولس الثَّاني من الأسقف هنيليتسا، خلال إقامته في مستشفى جيميلي بعد الحادث، أن يُحضر له كل الوثائق المتعلقة بظهورات السيدة العذراء في فاتيما. درس الأب الأقدس جميع الوثائق بدقة. وحينما غادر المستشفى قال للأسقف هنيليتسا: «أدركت أن الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العالم من الحروب والإلحاد هي التوبة وفقًا لإعلان فاتيما».
بعد خمسة أشهر فقط من محاولة اغتيال الأب الأقدس، وبالتحديد في 15 آب/أغسطس 1981 التقى الأب الأقدس مع المؤمنين في ساحة القدّيس بطرس وقال: «أنا مدين مرة أخرى إلى السيّدة العذراء وجميع الرعاة القديسين. هل لي أن أنسى أن ما حدث في ساحة القدّيس بطرس كان موافقًا لنفس اليوم ونفس الساعة التي تجلت فيها السيّدة العذراء للأطفال الريفيين الفقراء في فاتيما البرتغالية منذ قرابة ستين عامًا؟ في النهاية شعرت، مع كل ما حدث لي في ذلك اليوم، بالاهتمام والرعاية الأمومية غير العادية، التي صارت أقوى من الرصاصة القاتلة». تفسير مثير جدًا وجدير بالاهتمام سمعناه عن المحاولة الفاشلة لاغتيال الأب الأقدس من علي أغا نفسه. فقد زاره القدّيس يوحنَّا بولس الثَّاني في سجن «ربيبيا» في العاصمة روما. وفي خلال حديثه مع البابا تساءل المعتدي عن كيفية نجاة الأب الأقدس. كان على يقين من براعته في التصويب. كان يعلم أنه أطلق النار في مقتل… ومع ذلك لم يقتل. لماذا؟ فسأل قداسة البابا بإصرار: «ما هذا، لماذا يكرر الجميع: “فاتيما”»؟
في إعلان فاتيما طلبت السيّدة مريم العذراء من الأب الأقدس أن يكرس روسيا والعالم كله لها. كررت هذا الطلب في ظهورها للأخت لوسيَّا في 13 حزيران/يونيو 1929 في توي: «جاءت اللحظة التي يدعو فيها الله الأب الأقدس، جنبا إلى جنب مع أساقفة العالم كله لتكريس روسيا لقلبي البريء من الدنس، واعدًا أن يحفظها بهذه الطريقة». أراد القدّيس يوحنَّا بولس الثَّاني من كل قلبه الوفاء برغبة أمّ المسيح. ولهذا الغرض، وبالاتحاد مع جميع أساقفة العالم، بدأ الاستعدادات للاحتفال بتكريس روسيا والعالم أجمع لقلب مريم البريء من الدنس يوم 25 آذار/مارس عام 1984. في هذا اليوم المشهود في ساحة القدّيس بطرس في روما قام الأب الأقدس، في حضرة تمثال العذراء مريم سيدة فاتيما الذي تم إحضاره خصيصًا لهذه المناسبة، بتلاوة فعل تكريس روسيا والعالم أجمع تحقيقًا لرغبة العذراء البتول. في نفس اليوم كان الأساقفة في جميع الأبرشيات في العالم يقومون بالشيء نفسه بالاتحاد مع الكهنة والمؤمنين. وكان هناك شعور حدسي عم الجميع بأن هذا الحدث سيغير مسار التاريخ العالمي. قام القدّيس يوحنَّا بولس الثَّاني بتلاوة فعل التكريس لقلب مريم البريء من الدنس، للتغلب على قوى الشر التي تهدد البشرية جمعاء، وأضاف: «إن قوّة هذا التكريس تدوم في كل الأزمان، وتضم كل الناس والشعوب والأمم، وتتخطى كل سرّ يمكن لروح الظلمات أن يوقظه في قلب الإنسان وفي تاريخه، وقد أيقظه بالفعل في عصرنا… أيتها الأمّ، إننا بينما نكل إليكِ العالم وجميع الناس، نكل إليكِ أيضًا تكريس العالم نفسه (…) ونضعه في قلبك الأمومي. أيها القلب البريء من الدنس، ساعدنا للتغلب على تهديدات الشرّ الذي يتأصل اليوم بسهولة في قلوب الناس، ويُلقي بثقله على الحياة الحاضرة بنتائجه التي لا يمكن حصرها، حتى ليكاد يقطع السبيل صوب المستقبل». بعد تكريس روسيا والعالم أجمع لمريم، أمّ الكنيسة، قدم الأب الأقدس لأسقف فاتيما هدية فريدة من نوعها، قائلا: «هذا هو العيار الناري الذي تم استئصاله من جسمي 13 أيار/مايو 1981. أما الثاني، فقد ضاع في مكان ما في ساحة القدّيس بطرس. إنه لا يخصني لكنه يخص من حمتني وأنقذتني. فليتفضل نيافة الأسقف ويأخذه إلى فاتيما ليقدمه في المزار كعلامة على امتناني لمريم العذراء، وشهادة عن أعمال الله العظيمة». وبمبادرة من الأسقف، رُصّعت الرصاصة في تاج تمثال القدّيسة العذراء مريم سيدة فاتيما. أصبح يوم تكريس روسيا والعالم أجمع لمريم العذراء علامة بارزة في تاريخ البشرية. ففي وقت قصير سقط الاتحاد السوفيتي، إمبراطورية الشر الإلحادية الأولى من نوعها في تاريخ البشرية التي كانت تريد تدمير المسيحية بغض النظر عن التكاليف. عندما تولى ميخائيل غورباتشوف السلطة في الاتحاد السوفيتي، بدأ حركة الإصلاح التي تسمى بالبيريسترويكا، والتي أدت في النهاية، بعد بضع سنوات إلى انهيار النظام الشيوعي بأكمله. تفكك الاتحاد السوفيتي. استعادت بولندا مع غيرها من الدول استقلالها، واستعاد المؤمنون حقوقهم في ممارسة شعائرهم الدينية. نحن شهداء على آيات والدة الله العظيمة والمعجزة التي وعدت بها في فاتيما. أدت الأحداث التالية لعام 1989 إلى سقوط الإلحاد المتفشي في النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، وكذلك في العديد من بلدان أوروبا الشرقية. لكن الهجوم على الكنائس ومعاناة المسيحيين لم تتوقف في أجزاء أخرى من العالم. حتى لو كان الاعتداء على الأب الأقدس في 13 أيار/مايو عام 1981، الذي يقول عنه نصّ القسم الثالث من «سرّ فاتيما»، قد صار ماضيًا، إِلاَّ أن إعلان والدة الإله في بداية القرن العشرين، والدعوة إلى التوبة والتكفير لا يزال يحتفظ بصلاحيته إلى اليوم. إن إعلان العذراء مريم يبدو قراءة ممحصة لعلامات الساعة، علامات عصرنا. دعوتها الملحة إلى التوبة ليست إِلاَّ مظهر من مظاهر قلقها الأمومي على مصير الأسرة البشرية التي في حاجة إلى التوبة والمغفرة.